الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد يكون القرار المكين، هو الرحم الذي تستقرّ فيه النطفة..وبين خلق الإنسان من طين، وبين جعله نطفة في قرار مكين، مقابلة، بين نشأة الإنسان الأول من الطين، وبين عملية التوالد، التي هى وظيفة عضوية من وظائف هذا الإنسان..فالنشأة الأولى، من التراب.. وفى هذا التراب كانت تكمن جرثومة الإنسان الأول كما تكمن النطفة في هذا القرار المكين من الإنسان..ولكن شتان بين نطفة ونطفة! فالنطفة التي تخلّق منها الإنسان الأول كانت من مادة هذه الأرض كلها.. والمدى بعيد شاسع بين مادة الأرض، وبين هذا الإنسان المتخلق من المادة.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ {الخلق}: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ}.أما نطفة الإنسان، وما يتخلّق من هذه النطفة من كائن بشرى مثل هذا الإنسان، فالمسافة بينهما قريبة في مرأى العين البشرية، وفى مواجهة الشواهد الكثيرة لهذا.. في عالم النبات والحيوان.. حيث تخرج الحبّة نباتا مثل هذا النبات الذي جاءت منه، ويخرج الحيوان من نطفته حيوانا مثله.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ جعل. {ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً}..والجعل دون الخلق، إذ هو وظيفة من وظائف المخلوق، وذلك مثل قوله تعالى: {وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجًا وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباسًا وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشًا} [8- 11 النبأ].قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ}.تقصّ هذه الآية قصة خلق الإنسان، ابتداء من النطفة، التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى في قرار مكين.. هو الرّحم.وهنا يتجلى الإعجاز القرآنى، حتى ليكاد يلمس باليد، إن عميت عنه العيون، وزاغت عنه الأبصار! فقد رأينا كيف فرق النظم القرآنى بين أمرين:فأولا: جعل إيجاد الإنسان من الطين، عملية خلق.. {خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}.وثانيا: جعل توالد الإنسان من النطفة عملية وظيفية، تخضع لسنن ظاهرة يدركها الإنسان، ويعمل على تحقيقها، وقد عبر عنها القرآن بلفظ جعل.. {ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ}.وهنا في هذه الآية- وهو موضع العجب والدّهش والانبهار لهذا الإعجاز- هنا تتحرك النطفة نحو غايتها إلى أن تكون مولودا بشرا.. يتنقّل من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى هيكل عظمى معرّى من اللحم.. إلى هيكل بشرى يكسوه اللحم.. إلى جنين.. ثم طفل..وهذه الأطوار، هى في الواقع انطلاقة لهذه النطفة، وإظهار لما في كيانها..!وعلى هذا، فقد كان من المتوقع أن تكون هذه التحركات للنطفة من باب الجعل لا الخلق لأن النطفة ذاتها مجعولة وكل ما تعطيه هو من المجعول أيضا..ولكن النظم القرآنى، خالف هذا، وجاء بالتعبير عن الجعل بلفظ الخلق.فالنطفة لم تجعل علقة، وإنما خلقت علقة.. {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً}.والعلقة لم تجعل مضغة، وإنما خلقت مضغة.. {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً}.وهكذا المضغة، لم تجعل عظاما، وإنما خلقت عظاما.. {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظامًا}.فما سر هذا؟ بل ما أسرار هذا؟ وماذا وراءه؟السرّ في هذا- واللّه أعلم- أن كلّ عملية من هذه العمليات، هى خلق جديد، لا يملكه إلا الخالق جل وعلا، وهو مما استأثر به سبحانه وتعالى وحده، فسمّى ذاته الخالق وأبى على خلقه أن يشاركوه في هذه الصفة..ومعنى هذا، أنه لا يمكن للإنسانية كلها- وإن اجتمعت- أن تنتقل بالإنسان في هذه الأطوار من طور إلى طور.. وأن قدرة الناس- ولو اجتمعت- لا تستطيع أن تنتقل بالنطفة إلى العلقة، ولا بالعلقة إلى المضغة.. وهكذا..إنها جميعها- كما قرر القرآن- عمليات {خلق}، استأثر بها الخالق..وإنها لمعجزة قرآنية متحدية، قائمة على التحدي في كل زمان ومكان.. وإنه لن يأتى العلم أو العلماء- مهما بلغ العلم، واجتهد العلماء- بما يقف لهذه المعجزة المتحدية، على مدى الأزمان.نقول هذا، لا لنحجر على العلم، ولا لنقف في طريق العلماء، الذين يحاولون الوصول إلى خلق الكائن الحىّ.. بل نحن ندعو العلم، ونهيب بالعلماء أن يجروا في هذا الميدان إلى غايته، وأن يتحدّوا هذه المعجزة المتحدية.. فتلك هى دعوة القرآن للكشف عن إعجازه، والدعوة إلى الإيمان بأنه تنزيل من ربّ العالمين..وقد عرضنا لهذه القضية في مبحث خاص، تحت عنوان: الخالق وما خلق في تفسير الجزء السابع عشر، من القرآن الكريم..ـ وفى قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ} إشارة إلى نفخة الروح في الإنسان، بعد أن يتخلّق، ويتم تصويره على الصورة الإنسانية.. فهو قبل هذه النفخة كتلة من اللحم والعظم.. حتى إذا نفخ فيه الخالق من روحه، أصبح كائنا حيّا، ودخل في عالم الإنسان!- وقوله تعالى: {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِين} هو تمجيد للّه، وتسبيح بجلاله وعظمته، يقولها الحق سبحانه وتعالى ممجدا ذاته، ويقولها الوجود كلّه، تسبيحا، وصلاة، وحمدا للخالق المبدع المصوّر..قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ}.وهذه حقيقة واقعة، يعلمها الناس ويقعون في دائرة تجربتها.. فهى- والحال كذلك- في غير حاجة إلى أن يخبر عنها، ثم إذا كان لابد من الإخبار بها، فهى في غير حاجة إلى توكيد..ولكن جاء القرآن مخبرا عنها، ومؤكدا لها.. وذلك لأن الناس- وإن كانوا على علم واقع بهذه الحقيقة- ذاهلون عن الموت، غافلون عنه، حتى لكأنهم لن يموتوا أبدا.. فلقد غرّتهم الدنيا، وألهاهم متاعها، وشغلهم غرورها، فكانت هذه النخسة من القرآن الكريم، إيقاظا لهؤلاء النيام، الذين هم في غمرة ساهون، والذين هم في خوضهم يلعبون.قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ}.إن الموت ليس هو نهاية الإنسان، بل إنه مرحلة من مراحل وجوده، وموقف يتحول به من عالم إلى عالم آخر.. فيه حساب وجزاء. اهـ.
|